الأحد، 22 يناير 2012

قصة جميلة؟

السـهم
(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

كلما نظرتُ نحوه ينتابني هذا الشعور المقيت؛ شعورٌ بالأسى والعجز والحزن، منذ أن قدمَ للدنيا وهو في ظلِّ هذه المعاناة السرمدية، والتي لن تنتهي إلا بوفاته.

خياران أحلاهما مر؛ إما أن يعيشَ معاقًا لا يستطيع حتى ابتلاع طعامِه إلا بصعوبة، أو أن يعانقَ رحم الأرضِ مبكرًا.

إنه أخي محمد ذو خمسة أعوام، والذي بسبب تعسر الولادة فيه وانقطاع (الأوكجسين) عن خلايا مخه فترة لا تتحملها، خرج إلينا بهذا الشكلِ الشهير لدى الأطباءِ؛ من انحناءِ الرقبة المستديم، وحركات ذراعيه اللا إرادية، وضمور الكثير من أعضائه، حتى إنَّ مَن يراه يظنُّ بأنه ولد منذ شهورٍ لا سنين عدة.

وأكاد أجزم أنه لولا أمي لقضى نحبَه منذ أمد؛ فهي الوحيدة التي تخدمه بصبرٍ وجلد، دون ملل أو تعب؛ تطعمه بأناة لم أعهدها في طبعها، وهو الوحيد الذي لم تتأففْ من أيِّ مشهد قذر يخصُّه، على نقيض ما كانت تفعلُ معنا نحن الستة، حتى إني أتعجبُ من سرِّ هذه الرابطة التي نشأت بينها وبينه، فرغم مشاغلها التي لا تنتهي لخدمتنا إلا أنه يستحوذُ على أضعافِ ما تقدِّمُه لنا!

لن أنسى أبدًا ذلك اليوم، حينما ذهبت مع أبي إلى المدينةِ لشراء بعض الأجهزةِ التي ستصحب أختي لعشِّ مستقبلها الذهبي، يومها رفضتْ أختي تمامًا صحبتَه لهم، حتى لا تتحرَّج منه أمام أسرة خطيبها، وبعد أن استقرَّ الرأي على بقائي معه حتى عودتهم، ظلَّتْ أمي ما يقربُ من نصفِ الساعة تلقنني كيفيةَ خدمته وإطعامه:

يجب اختبار دفء الطعام، بحيث لا يكون باردًا ولا ساخنًا.

يجب أن يكون سائلاً بدرجةِ لزوجةٍ معينة، بحيث لا يكون صلبًا يتعسَّرُ ابتلاعُه، أو سائلاً جدًّا؛ لأنه لا يستسيغه سائلاً.

وكيفية التغيير له بهدوءٍ وبطء، ويجب عليَّ الحذر عند رفعِ ساقه اليُسرى، فهو يتألَّم إذا ارتفعت أكثر من درجةٍ معينة.

وبعد أن راجعتْ معي كلَّ هذا ثلاث مرات، ودلتني على موضع كلِّ أدوات الرعاية والطعام، انطلقتْ بعد أن طبعت على وجنتيه قبلاتٍ حارة، وقبل أن تغلقَ الباب عادت مرة أخرى لتطلَّ برأسِها لتنظرَ نحوه نظرةً أخيرة، وتقول له: "استودعتك الله يا بني".

وهنا بدأت مأساتي معه، فكأنما كان يستمعُ إلى حفيفِ خطواتها، وما إن غابت عن أذنيه حتى بدأ الأنينُ، يتبعه البكاءُ بلا انقطاع، هل يُعقل أن يكون الجوعُ قد داهمه بهذه السرعة؟!

حاولتُ إطعامَه ليرفض بعنفٍ ويدفع بيدِه كلَّ ما أقدمه له، وصوت بكائه يتعالى أكثر وأكثر، فحصتُه جيدًا لأجد أنه لا شيء فيه يستدعي البكاء، عشر دقائق مرتْ بنفس هذا الوضع، وبدأت أضيقُ به تمامًا، حاولت حمله والسير به، ومنيت بالفشلِ في محاولة منعِ بكائه، فعلتُ كلَّ ما يتراءى لتهدئته ولا أثر، فما كان منى إلا أن تركتُه يبكي، وأقول: حتمًا سيتعبُ ويسكت، لكنه لم يتوقفْ أبدًا، نظرت نحوه وقلت له بعنف: "والله، إنَّ موتك رحمة لك ولنا"، وكأنما أدرك معنى الجملة، فقد صمتَ بعدها، وسريعًا ذهب في سباتٍ عميق، فتركته في مهدِه، وذهبت لحجرتي لأبدأ في استذكارِ دروسي والعمل على حاسوبي، وطالت الغيبة، ولأني لم أسمع له صوتًا، لم أحاول إزعاجَه، وبعد ساعات جاءتْ أمي لتكتشفَ الفاجعة، من الواضحِ أنه قد استيقظ منذ أمدٍ وظلَّ يعضُّ ويمتصُّ جلدَ يديه في صمتٍ عجيب، كان المشهدُ مقززًا، وقد تهتَّك الجلدُ وسالت الدماءُ منه، وكانت تلون زاويتي شفتيه بشكلٍ مقزز.

هذه الصورة مع كلماتِ أمي سياط انهالت على مشاعري، ولم تفلح حججي الواهية في محاولةِ تهدئة ثورة أمي المكلومة، ومن يومها لم تفارقه أبدًا، ولكنَّ الأقدار لها حسبة خاصة في هذه الدنيا؛ فلم يكن هذا هو الاختبار الوحيد لأمي، فقد داهمها وهنٌ عجيب أعجزها عن الكثيرِ مما تصارعُه يوميًّا، كان وجهها الشاحب وضعف وبُطْء حركتها يوحيان بأنها تعاني أمرًا ما، وبعد إلحاحٍ مني قبلتْ بالذهابِ للكشف عليها، وبكلِّ بساطة طلب منَّا الطبيب فحص دمائها، وعندما سألته عن التشخيصِ المتوقع، قال وهو يشيح بوجهِه موحيًا بأني قد أخذتُ أكثر من المستحق لي من وقتِه: "قد يكون مجرد فقر دمٍ بسيط أو سرطان الدم"! التفت نحو أمي للتأكُّدِ من أنها لم تتلقفْ ذلك الحجر الصلب منه، ولكن مع هذا الجمودِ الذي يفترشُ وجهَها لم أدر أبدًا هل وصلها أم لا؟!

بمنتهى الجزَع توجهتُ بها إلى معملِ التحاليل الذي أمرنا الطبيبُ بوجوبِ التعامل معه، وبعد سحب عينةِ الدماء أخبرني المختصُّ أنَّ النتيجةَ مساء الغد، ومرَّ هذا اليوم وأنا تنتابني مشاعرُ شتى، وأفكارٌ تتصارعُ حول مصير أمي الحبيبة، وكيف نواجه ذلك الوحشَ الذي يتربصُ بها، بين شرايينها وأوردتها.

ولم يفوتني التفكير في أخي محمد، سيكون من رحمةِ الله - عزَّ وجلَّ - به أن يقبضَه إليه قبل أن يعاني ويقاسي فراقَها، وذهبت في اليوم التالي بدونها للحصولِ على النتيجة التي كانت مفجعةً ومفاجأة رغم توقعِها وانتظارها، إنه سرطان الدم!

توجهت للطبيبِ مباشرة لأعلم منه ما السبل التي يجبُ علينا سلوكها لمواجهته، وهل يجب مصارحتها أم لا؟

بنفسِ الجمود الذي لا يناسبُ الموقفَ أبدًا، قال بأنها ستعاني كثيرًا مع العلاجِ الكيميائي، والذي قد يقعدها تمامًا عن أيِّ عملٍ، وبالطبع يجب مصارحتها، حتى تتقبل العلاجَ طويل الأمد، وتهيئ نفسَها له.

احتضنتُها بقوةٍ والكلمات تتردَّدُ بداخلي وتتقاتل، كي لا تخرج مني، وسالت دموعي رغمًا عني، ولكنها بكلِّ هدوء قالت لي: "لنا الله يا ولدي، والحمد لله، كل شيء نصيب، والأعمارُ بيد الله".

انتزعت مني كلَّ ما جابهت لمنعه، وأخبرتها عن العلاجِ القاسي، واحتمالات نجاحِه الضعيفة، وبدون أي ردٍّ منها قامت لتحتضنَ محمدًا، وتضمه إلى صدرِها، كأنما قد غادر رحمها للتو.

وفي المساء كنت أتقلبُ على الجمرِ، وقد انتصف الليل ولم يغمض لي جفن، وعندما خرجت لأتمشى قليلاً إذا بي أستمعُ لصوتها المتهدج في قلبِ الظلمة وهي تقول: "يا رب، أنت أرحمُ به مني، إمَّا أن تشفيني وتعافيني لأجلِه، أو تأخذه عندك برحمتِك وعفوك"! سالت دموعي على الرَّغمِ مني، وقد انتقل إلى قلبي كلُّ ما يوجِعُ قلبَها، وقد أيقنت بأنَّ محمدًا أخي لن يمكثَ معنا كثيرًا، فأمام هذا المرضِ القاسي انعدمت كلُّ فرصة في النجاة، إنها سنن الكون ولا مجال لمنازعتِها، وظللت أطوف ليلاً، تلفح وجهي نسماتُه التي من المفترضِ أنها جميلة، حتى ارتفع التكبيرُ لصلاةِ الفجر، ولأول مرة أكون في مطلعِ الصفوف، ولم ينقطع دعائي لأمي وأخي، وعند الصباح اصطحبتُ أمي وذهبت بها إلى الطبيبِ في المشفى الذي يعمل به.، كنا نسيرُ بخطى كسيحة ونفوس كسيرة وعقول ذاهلة، وكل منَّا يهيم في عالم آخر غير الذي يرانا النَّاسُ فيه.

طلب الطبيبُ المزيدَ من الفحوص الطبية لكي يبدأ مسيرةَ العلاج، وعند الذهاب لنفسِ المعمل كما طلب منَّا لإجراء هذه الفحوص، إذا بالرجلِ المختص بالنتائج هناك يندفع نحوي، ويقول: "الحمد لله أنك قد قدمت"، تعجبتُ كيف يذكرني هكذا، ولكن لم يطق الرجلُ صبرًا وأخبرني مباشرةً بأنَّ نتيجةَ التحليل التي أخذتها في المرة السابقة لا تخصنا، فقد تم الخلطُ بينها وبين مريض آخر، ولم يتم اكتشاف الأمر إلا بعد ذهابي، وبعد اعتذارِه الشديد عن هذا الخطأ، أعطانا النتيجةَ الحقيقية، والتي تظهر بأنَّ أمي لا تعاني سوى من فقرِ الدم وفقط!

تمتْ بحمد الله

ليست هناك تعليقات: